جاء في سورة مريم
﴿لقد أحصاهم وعدهم عداوكلهم آتيه يوم القيامة فرداإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودافإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾ [مريم: ٩٤-٩٧]
كان الاقتران والمقابلة بين من يأتي فردا وحيدا وبين من يكون له الود يوم القيامة بعكس فردانية الأول من البديهيات في ذهني بدون مراجعة التفاسير. ثم راجعت تفاسير السلف فوجدتهم يفسرونها بالمودة في الدنيا التي يجعلها الله في قلوب الناس للمؤمن إلا ما ذكره الفخر الرازي عن أبي مسلم أن المودة أخروية ورده الرازي ولم يلاحظ الآية قبلها ولم يحتج بها أبو مسلم فيما ذكره الرازي . وكان الرازي خليق بملاحظة ذلك لولا رواية الترمذي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي فيها تفسير الآية بالمودة في الدنيا التي يضعها الله في قلوب الناس للمؤمن . وهي زيادة شاذة
ثم وقفت على قول الطاهر بن عاشور في تفسيره
(ﺇﻥ اﻟﺬﻳﻦ ﺁﻣﻨﻮا ﻭﻋﻤﻠﻮا اﻟﺼﺎﻟﺤﺎﺕ ﺳﻴﺠﻌﻞ ﻟﻬﻢ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﻭﺩا (96)
ﻳﻘﺘﻀﻲ اﺗﺼﺎﻝ اﻵﻳﺎﺕ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ اﻵﻳﺔ ﻭﺻﻒ ﻟﺤﺎﻝ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﻀﺪ ﺣﺎﻝ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺣﺎﻝ ﺇﺗﻴﺎﻧﻬﻢ ﻏﻴﺮ ﺣﺎﻝ اﻧﻔﺮاﺩ ﺑﻞ ﺣﺎﻝ ﺗﺄﻧﺲ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﺒﻌﺾ.
ﻭﻟﻤﺎ ﺧﺘﻤﺖ اﻵﻳﺔ ﻗﺒﻠﻬﺎ ﺑﺄﻥ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ ﺁﺗﻮﻥ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻣﻔﺮﺩﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﺸﻌﺮا ﺑﺄﻧﻬﻢ ﺁﺗﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﺘﻤﻨﻰ اﻟﻤﻮﺭﻁ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻳﺪﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﻭﻳﻨﺼﺮﻩ، ﻭﺇﺷﻌﺎﺭ ﺫﻟﻚ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻣﻐﻀﻮﺏ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﺃﻋﻘﺐ ﺫﻟﻚ ﺑﺬﻛﺮ ﺣﺎﻝ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ اﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ، ﻭﺃﻧﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺣﺎﻝ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ، ﻭﺃﻧﻬﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺑﻤﻘﺎﻡ اﻟﻤﻮﺩﺓ ﻭاﻟﺘﺒﺠﻴﻞ. ﻓﺎﻟﻤﻌﻨﻰ: ﺳﻴﺠﻌﻞ ﻟﻬﻢ اﻟﺮﺣﻤﺎﻥ ﺃﻭﺩاء ﻣﻦ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻧﺤﻦ ﺃﻭﻟﻴﺎﺅﻛﻢ ﻓﻲ
اﻟﺤﻴﺎﺓ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ
[ ﻓﺼﻠﺖ: 31]
، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﺑﻴﻦ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻮﺩﺓ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻭﻧﺰﻋﻨﺎ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺻﺪﻭﺭﻫﻢ ﻣﻦ ﻏﻞ
[ اﻷﻋﺮاﻑ: 43]
.
ﻭﺇﻳﺜﺎﺭ اﻟﻤﺼﺪﺭ ﻟﻴﻔﻲ ﺑﻌﺪﺓ ﻣﺘﻌﻠﻘﺎﺕ ﺑﺎﻟﻮﺩ. ﻭﻓﺴﺮ ﺃﻳﻀﺎ ﺟﻌﻞ اﻟﻮﺩ ﺑﺄﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺠﻌﻞ ﻟﻬﻢ ﻣﺤﺒﺔ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺏ ﺃﻫﻞ اﻟﺨﻴﺮ. ﺭﻭاﻩ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ ﻋﻦ ﻗﺘﻴﺒﺔ ﺑﻦ ﺳﻌﻴﺪ ﻋﻦ اﻟﺪﺭاﻭﺭﺩﻱ. ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬﻩ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻋﻦ ﺃﺣﺪ ﻣﻤﻦ ﺭﻭﻯ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻏﻴﺮ ﻗﺘﻴﺒﺔ ﺑﻦ ﺳﻌﻴﺪ ﻭﻻ ﻋﻦ ﻗﺘﻴﺒﺔ ﺑﻦ ﺳﻌﻴﺪ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬﻩ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﺇﺩﺭاﺝ ﻣﻦ ﻗﺘﻴﺒﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ ﺧﺎﺻﺔ.
ﻭﻓﺴﺮ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺄﻥ اﻟﻠﻪ ﺳﻴﺠﻌﻞ ﻟﻬﻢ ﻣﺤﺒﺔ ﻣﻨﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻓﺎﻟﺠﻌﻞ ﻫﻨﺎ ﻛﺎﻹﻟﻘﺎء ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻭﺃﻟﻘﻴﺖ ﻋﻠﻴﻚ ﻣﺤﺒﺔ ﻣﻨﻲ
[ ﻃﻪ: 39]
. ﻫﺬا ﺃﻇﻬﺮ اﻟﻮﺟﻮﻩ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﻮﺩ، ﻭﻗﺪ ﺫﻫﺐ ﻓﻴﻪ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ اﻟﻤﻔﺴﺮﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﻮاﻝ ﺷﺘﻰ ﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔ ﻓﻲ اﻟﻘﺒﻮﻝ.)
فحقا قد يفتح الله على المتأخر ما ليس عند الأوائل ... والعلم هبة وتوفيق من الله تبارك وتعالى
وقد قال الله تعالى في شأن تلك المودة الأخروية المعاكسة لحالة التفرد والوحشة
﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ [الأنبياء: ١٠٣]
___
وقد قارب صاحب الظلال من ذلك . لكنه كعادته وتحرزه لم يجاوز الوارد في تفاسير السلف . فقال (ﻭﺇﻥ اﻟﻜﻴﺎﻥ اﻟﺒﺸﺮﻱ ﻟﻴﺮﺗﺠﻒ ﻭﻫﻮ ﻳﺘﺼﻮﺭ ﻣﺪﻟﻮﻝ ﻫﺬا اﻟﺒﻴﺎﻥ.. «ﻟَﻘَﺪْ ﺃَﺣْﺼﺎﻫُﻢْ ﻭَﻋَﺪَّﻫُﻢْ ﻋَﺪًّا» ﻓﻼ ﻣﺠﺎﻝ ﻟﻬﺮﺏ ﺃﺣﺪ ﻭﻻ ﻟﻨﺴﻴﺎﻥ ﺃﺣﺪ «ﻭكلهم ﺁﺗِﻴﻪِ ﻳَﻮْﻡَ اﻟْﻘِﻴﺎﻣَﺔِ ﻓَﺮْﺩاً» ﻓﻌﻴﻦ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ. ﻭﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻳﻘﺪﻡ ﻭﺣﻴﺪا ﻻ ﻳﺄﻧﺲ ﺑﺄﺣﺪ ﻭﻻ ﻳﻌﺘﺰ ﺑﺄﺣﺪ. ﺣﺘﻰ ﺭﻭﺡ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻳﺠﺮﺩ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﻭﺣﻴﺪ ﻓﺮﻳﺪ ﺃﻣﺎﻡ اﻟﺪﻳﺎﻥ.
ﻭﻓﻲ ﻭﺳﻂ ﻫﺬﻩ اﻟﻮﺣﺪﺓ ﻭاﻟﻮﺣﺸﺔ ﻭاﻟﺮﻫﺒﺔ، ﺇﺫا اﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ ﻓﻲ ﻇﻼﻝ ﻧﺪﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﺩ اﻟﺴﺎﻣﻲ: ﻭﺩ اﻟﺮﺣﻤﻦ:
«ﺇﻥ اﻟَّﺬِﻳﻦَ ﺁﻣَﻨُﻮا ﻭَﻋَﻤِﻠُﻮا اﻟﺼَّﺎﻟِﺤﺎﺕِ ﺳﻴﺠﻌﻞ ﻟﻬﻢ اﻟﺮَّﺣْﻤﻦُ ﻭﺩا» ..
ﻭﻟﻠﺘﻌﺒﻴﺮ ﺑﺎﻟﻮﺩ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺠﻮ ﻧﺪاﻭﺓ ﺭﺧﻴﺔ ﺗﻤﺲ اﻟﻘﻠﻮﺏ، ﻭﺭﻭﺡ ﺭﺿﻰ ﻳﻠﻤﺲ اﻟﻨﻔﻮﺱ. ﻭﻫﻮ ﻭﺩ ﻳﺸﻴﻊ ﻓﻲ اﻟﻤﻸ اﻷﻋﻠﻰ، ﺛﻢ ﻳﻔﻴﺾ ﻋﻠﻰ اﻷﺭﺽ ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻤﺘﻠﻰء ﺑﻪ اﻟﻜﻮﻥ ﻛﻠﻪ ﻭﻳﻔﻴﺾ..
ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ- ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ- ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ- ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ- ﻗﺎﻝ: «ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺃﺣﺐ ﻋﺒﺪا ﺩﻋﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﺇﻧﻲ ﺃﺣﺐ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺣﺒﻪ. ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺤﺒﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ. ﺛﻢ ﻳﻨﺎﺩﻱ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء: ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺤﺐ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺣﺒﻮﻩ. ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺤﺒﻪ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء. ﺛﻢ ﻳﻮﺿﻊ ﻟﻪ اﻟﻘﺒﻮﻝ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ. ﻭﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺃﺑﻐﺾ ﻋﺒﺪا ﺩﻋﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﺇﻧﻲ ﺃﺑﻐﺾ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺑﻐﻀﻪ. ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺒﻐﻀﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ. ﺛﻢ ﻳﻨﺎﺩﻱ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء:
ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺒﻐﺾ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺑﻐﻀﻮﻩ. ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺒﻐﻀﻪ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء ﺛﻢ ﻳﻮﺿﻊ ﻟﻪ اﻟﺒﻐﻀﺎء ﻓﻲ اﻷﺭﺽ )
أما مناسبة ذكر القرآن وتيسيره وتبشيره (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين ) بذكر المودة في الآخرة فهي ما جاء في الحديث الشريف (إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ )
والحديث الآخر ( (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ)
تعليقات
إرسال تعليق